فصل: تفسير الآيات (45- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}
قوله تعالى: {سِمَانٍ}: صفة لبقرات وهو جمع سمينة، ويُجْمع سمين أيضًا عليه يقال: رجال سِمان كما يقال نِساء كِرام ورجال كِرام. والسِّمَنُ مصدرُ سَمِن يَسْمَن فهو سمين فالمصدر واسم الفاعل جاءا على غير قياس، إذ قياسُهما سَمَن بفتح الميم، فهو سَمِن بكسرها، نحو فَرِح فَرَحًا فهو فَرِح.
قال الزمخشري: هل مِنْ فرقٍ بين إيقاع {سمان} صفة للمميِّز وهو {بقراتٍ} دون المُمَيَّز وهو {سبعَ}، وأن يقال: سبعَ بقراتٍ سِمانًا؟ قلت: إذا أوقَعْتَها صفةً ل {بقرات} فقد قَصَدْتَ إلى أَنْ تُمَيِّز السبعَ بنوع من البقرات وهو السِّمانُ منهنَّ لا بجنسهنَّ، ولو وَصَفْتَ بها السبع لَقَصَدْت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوعٍ منها، ثم رَجَعْتَ فَوَصَفْتَ المميَّز بالجنس بالسِّمَنِ. فإن قلت: هَلاَّ قيل {سبعَ عجافٍ} على الإِضافة. قلت: التمييزُ موضوعٌ لبيان الجنس، والعِجافُ وصفٌ لا يقع البيانُ به وحدَه. فإن قلت فقد يقولون: ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب. قلت: الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفاتٌ جَرَتْ مَجْرى الأسماء فأخَذَتْ حُكْمَها، وجاز فيها ما لم يَجُزْ في غيرها. ألا تراك لا تقول: عندي ثلاثةُ ضخامٍ ولا أربعةُ غلاظٍ. فإن قلت: ذاك مِمَّا يُشْكِلُ وما نحن بسبيلهِ لا إشكال فيه ألا ترى أنه لم يَقُلْ {وبقرات سبعَ عجافٍ} لوقوع العلم بأن المرادَ البقرات. قلت: تَرْكُ الأصلِ لا يجوز مع وقوع الاستغناء عَمَّا ليس بأصلٍ، وقد وقع الاستغناء عن قولك {سبع عجافٍ} عمَّا تقترحه من التمييز بالوصف.
قلت: وهي أسئلة وأجوبة حسنة. وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزم مِنْ وَصْفِ التمييز بشيء وَصْفُ المميَّزِ به، ولا يلزم من وصف المُمَيَّز وَصْفُ التمييز بذلك الشيءِ، بيانُه أنك إذا قلت: عندي أربعةُ رجالٍ حسانٍ بالجرِّ كان معناه: أربعة من الرجال الحسان، فيلزم حُسْنُ الأربعة؛ لأنهم بعض الرجال الحسان، وإذا قلت: عندي أربعةُ رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه: أربعة من الرجال حِسان، وليس فيه دلالةٌ على وَصْف الرجال بالحُسْن.
وتحقيقُ الثاني وجوابه: أن أسماءَ العدد لا تُضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة، وإنما يُجاء بها تابعةً لأسماء العدد فيقال: عندي ثلاثة قرشيون ولا يُقال: ثلاثةُ قرشيين بالإِضافة إلا في شعر. ثم اعترض بثلاثة فرسان وأجاب بجريان ذلك مجرى الأسماء.
وتحقيق الثالث: أنه إنما امتنع ثلاثةُ ضِخام ونحوه لأنه لا يُعْلَمُ موصوفُه، بخلاف الآية الكريمة فإنَّ الموصوفَ معلومٌ ولذلك لم يُصَرِّحْ به. وأجاب عن ذلك بأن الأصلَ عدمُ إضافةٍ العددِ إلى الصفة كما تقدَّم فلا يُتْرك هذا الأصلُ مع الاستغناءِ بالفرع، وعلى الجملة ففي هذه العبارة قلق هذا ملخصها، ولم يذكر الشيخُ نصَّه ولا اعترض عليه، بل لَخَّصَ بعضَ معانيه وتركه على إشكاله.
وجَمْعُ عَجْفاء على عِجاف. والقياس: عُجُف نحو: حمراء وحُمُر، حَمْلًا له على {سِمان} لأنه نقيضُه، ومِنْ دَأْبهم حَمْل النظير على النظير والنقيض على النقيض، قاله الزمخشري: والعَجَفُ شِدَّة الهُزالِ الذي ليس بعده قال:
عمرُو الذي هَشَم الثريدَ لقومِه ** ورجالُ مكةَ مُسْنِتون عِجافُ

وقال الراغب: هو من قولهم نَصْلٌ أعجفُ، أي: دقيق، وعَجَفَتْ نفسي عن الطعام، وعن فلان إذا نَبَتْ عنهما، وأَعْجف الرجلُ، أي: صادف ماشِيَتَه عِجافًا.
قوله: {وَأُخَرَ} أُخَرَ نسقٌ على سبعَ لا على سنبلات، ويكون قد حَذَف اسمَ العددِ من قوله: {وأُخَر يابسات} والتقدير: وسبعًا أُخَرَ، وإنما حَذَف لأنَّ التقسيمَ في البقرات يقتضي التقسيمَ في السنبلات.
قال الزمخشري: فإنْ قلت: هل في الآية دليل على أنَّ السنبلاتِ اليابسةَ كانت سبعًا كالخضر؟ قلت: الكلامُ مبنيٌّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعِجافِ والنسبلاتِ الخُضْر، فَوَجَبَ أن يتناول معنى الأُخر السبع، ويكون قوله: {وأُخَرَ يابسات} بمعنى وسبعًا أُخَرَ انتهى. وإنما لم يَجُزْ عَطْفُ {أُخر} على التمييز وهو {سنبلات} فيكون {أُخَر} مجرورًا لا منصوبًا؛ لأنه من حيث العطفُ عليه يكونُ مِنْ جملة مُمَيَّز {سبعَ}، ومِنْ جهةِ كونه آخر يكون مباينًا ل {سبع} فتدافعا، ولو كان تركيبُ الآية الكريمة: {سبع سنبلاتٍ خضرٍ ويابسات} لصَحَّ العطفُ، ويكون مِنْ توزيع السنبلات إلى هذين الوصفين أعني الاخضرارَ واليُبْس.
وقد أوضح الزمخشري هذا حيث قال: فإن قلتَ: هل يجوز أن يُعْطَفَ قولُه: {وأُخَرَ يابساتٍ} على {سنبلاتٍ خَضْرٍ} فيكون مجرورَ المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافُعٍ، وهو أنَّ عَطْفَها على {سنبلات خضر} يقتضي أن يكونَ داخلًا في حكمها، فتكون معها مميِّزًا للسبع المذكور، ولفظُ الأُخَر يقتضي أن تكونَ غيرَ السبع. بيانُه أنك تقول: عنده سبعة رجالٍ قيامٍ وقعودٍ بالجرِّ؛ فيصحُّ لأنك مَيَّزْتَ السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنَّ بعضَهم قيامٌ وبعضَهم قعودٌ، فلو قلت: عنده سبعةٌ رجال قيام وآخرين قعود تدافعَ ففسد.
قوله: {لِلرُّؤْيَا}: فيه أربعة أوجه، أحدها: أن اللام فيه مزيدةٌ فلا تَعَلٌّق لها بشيء، وزِيْدت لتقدُّم المعمولِ مقويةً للعامل، كما زِيْدَتْ فيه إذا كان العامل فرعًا كقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، ولا تُزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورةَ كقوله:
فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنا قليلًا ** أَنَخْنا للكلاكلِ فارْتَمَيْنا

يريد: أنخنا الكلاكل، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول إلا في ضرورة، وبعضُهم يقول: الأكثر ألاَّ تُزادَ، ويتُحَرَّزُ مِنْ قوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] فإن الأصلَ: رَدِفَكم فزيدت فيه اللام، ولا تَقَدُّم ولا فرعية، ومَنْ أطلق ذلك جَعَل الآية من باب التضمين، وسيأتي في مكانِه، وقد تقدَّم لك من هذا طرفٌ جيدٌ في تضاعيف هذا التصنيف.
الثاني: أن يُضَمَّن {تَعْبُرون} معنى ما يتعدى باللام، تقديره: إن كنتم تَنْتَدِبون لعبارة الرؤيا.
الثالث: أن يكونَ {للرُّؤْيا} هو خبر {كنتم} كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلًا به متمكِّنًا منه، وعلى هذا فيكون في {تعبرُون} وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ ل {كنتم} والثاني: أنه حالٌ مِن الضمير المرتفع بالجار لوقوعه خبرًا.
الرابع: أنْ تتعلَّقَ اللامُ بمحذوفٍ على أنها للبيانِ كقوله تعالى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] تقديرُه: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديرُه: أعني للرؤيا، وعلى هذا فيكون مفعول {تعبُرون} محذوفًا تقديرُه: تعْبُرونها.
وقرأ أبو جعفر {الرُّؤْيا} وبابَها الرُّيَّا بالإِدغام، وذلك أنه قَلَبَ الهمزةَ واوًا لسكونِها بعد ضمةٍ فاجتمعت ياءٌ وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتْ الياءُ في الياء. وهذه القراءةُ عندهم ضعيفةٌ؛ لأنَّ البدلَ غيرُ لازمٍ فكأنه لم تُوْجَدْ واو نظرًا إلى الهمزة.
وعَبَرْتُ الرؤيا بالتخفيف قال الزمخشري: هو الذي اعتمده الأثباتُ، ورَأَيْتُهم يُنْكرون عَبَّرت بالتشديد والتعبير والمعبِّر قال: وقد عَثَرْتُ على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رَأَيْتُ رُؤْيا ثم عَبَّرْتُها ** وكنتُ للأحلام عَبَّارا

قال: وحقيقةُ عبرت الرؤيا: ذكرتَ عاقبَتها وآخر أمرها كما تقول: عَبَرْتُ النهر إذا قطعتَه حتى تبلغَ آخرَ عَرْضه.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}
قوله تعالى: {أَضْغَاثُ}، {أَضْغاث} خبر مبتدأ مضمر، أي: هي أضغاث، يَعْنُون ما قَصَصْته علينا، والجملةُ منصوبةٌ بالقول. والأضغاث جمع ضِغْث بكسر الضاد، وهو ما جُمِع من النبات سواء كان جنسًا واحدًا أو أجناسًا مختلطة وهو أصغرُ مِن الحُزْمة وأكبر من القَبْضة، فمِنْ مجيئه من جنسٍ واحد قولُه تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] رُوِي في التفسير أنه أخذ عِثْكالًا مِنْ نخلة. وفي الحديث: «أنه أُتي بمريض وَجَبَ عليه حَدٌّ ففُعِل به ذلك». وقال ابن مقبل:
خَوْدٌ كأن فِراشَها وُضِعَتْ به ** أضغاثُ رَيْحانٍ غَداةَ شَمَالٍ

ومِنْ مجيئه مِنْ أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: ضِغْثٌ على إبَّالة، وقد خَصَّصه الزمخشري بما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، فقال: وأصلُ الأَضْغاث ما جُمِع مِنْ أخلاط النبات، وحِزَم الواحِد ضِغْثٌ. وقال الراغب: الضِّغْث قَبْضَةُ رَيْحانٍ أو حَشيش أو قُضْبان. قلت: وقد تقدَّم أنه أكثرُ من القَبْضة، واستعمالُ الأَضْغاث هنا من باب الاستعارة. والإِضافة في {أَضْغاث أحلام} إضافةٌ بمعنى: {مِنْ} إذ التقديرُ: أضغاثٌ من أحلام.
والأَحْلام جمع حُلُم. والباء في {بتأويل} متعلقةٌ ب {عالمين}، وفي {بعالمين} لا تعلُّقَ لها لأنها زائدةٌ: إمَّا في خبرِ الحجازيَّة أو التميمية.
وقولهم ذلك يُحتمل أن يكونَ نفيًا للعلم بالرؤيا مطلقًا، وأن يكونَ نفيًا للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصةً دونَ المنام الصحيح. وقال أبو البقاء: بتأويل أضغاث الأحلام لابد من ذلك لأنهم لم يَدَّعوا الجهلَ بعبارة الرؤيا انتهى. وقوله الأحلام وإنما كان واحدًا، قال الزمخشري كما تقول: فلان يركب الخيل ويلبس عَمائم الخَزِّ، لمَنْ لا يركب إلا فرسًا واحدًا ولا يتعمَّم إلا بعمامة واحدة تَزَيُّدًا في الوصف، ويجوز أن يكونَ قَصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)}
كان ابتداءُ بلاءِ يوسف عليه السلام بسبب رؤيا رآها فَنَشَرَها وأظهرها، وكان سببُ نجاتِه أيضًا رؤيا رآها المِلكُ فأظهرها، ليُعْلَم أَنَّ اللَّهَ يفعل ما يريد؛ فكما جعل بَلاءَه في إظهار رؤيا جعل نجاته في إظهار رؤيا؛ لِيَعْلَم الكافةُ إن الأمر بيد الله يفعل ما يشاء.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)}
حال الرؤيا لا يختلف بالخطأ في التعبير؛ فإنَّ القوم حكموا بأن رؤياه أضغاثُ أحلام فلم يُضِرْه ذلك، ولم يؤثِّرْ في صحة تأويلها.
قوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}: مَنْ طلَبَ الشيءَ مِنْ غيرِ موضِعه لم يَنَلْ مطلوبه، ولم يَسْعَد بمقصوده. اهـ.

.تفسير الآيات (45- 49):

قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا حالًا مذكرًا للساقي بيوسف عليع الصلاة والسلام- أخبر سبحانه بأنه ذكره بعد نسيانه، فقال عادلًا عن الفاء إيذانًا بأنه من الملا: {وقال الذي نجا} أي خلص من الهلاك: {منهما} أي من صاحبي السجن، وهو الساقي: {و} الحال أنه: {ادكر}- بالمهملة، أي طلب الذكر- بالمعجمة، وزنه افتعل: {بعد أمة} من الأزمان، أي أزمان مجتمعة طويلة: {أنا أنبئكم} أي أخبركم إخبارًا عظيمًا: {بتأويله} أي بتفسير ما يؤول إليه معنى هذا الحلم وحده كما هو الحق، وسبب عن كلامه قوله: {فأرسلون} أي إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فإنه أعلم الناس، فأرسلوه إليه؛ قال ابن عباس- رضى الله عنهما-: ولم يكن السجن في المدينة، فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه مناديًا له بالنداء القرب تحببًا إليه: {يوسف} وزاد في التحبب بقوله: {أيها الصديق} أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحًا عليه: {أفتنا} أي اذكر لنا الحكم: {في سبع} وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة- كما مضى لما مضى- فقال: {بقرات سمان} أي رآهن الملك: {يأكلهن سبع} أي من البقر: {عجاف} أي مهازيل جدًا: {و} في: {سبع سنبلات} جمع سنبلة، وهي مجمع الحب من الزرع: {خضر و} في سبع: {أخر} أي من السنابل: {يابسات} وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جريًا على العوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفًا من أن يكون التأويل شيئًا لا يواجه به الملك، فعزم على الهرب- على هذا التقدير، وإما استعجالًا ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع، فإن الناس في غاية التلفت إليه، فقال: {لعلي أرجع إلى الناس} قبل مانع يمنعني.
ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنونًا، قال: {لعلهم يعلمون} أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعلموا لكل حال ما يمكنهم عمله، فكأنه قيل: فما قال له؟ فقيل: {قال}: تأويله أنكم: {تزرعون} أي توجدون الزراعة.
فهو إخبار بمغيب، فهو أقعد في معنى الكلام، ويمكن أن يكون خبرًا بمعنى الأمر: {سبع سنين دأبًا} أي دائبين مجتهدين- والدأب: استمرار الشيء على عادته- كما أشارت إليه رؤياك بعصر الخمر الذي لا يكون إلا بعد الكفاية، ودلت عليه رؤيا الملك للبقرات السمان والسنابل الخضر، والتعبير بذلك يدل على أن هذه السبع تكون- كما تعرفون- من أغلب أحوال الزمان في توسطه بخصب أرض وجدب أخرى، وعجز الماء عن بقعة وإغراقه لأخرى- كما أشار إليه الدأب: ثم أرشدهم إلى ما يتقوون به على ما يأتي من الشر، فقال: {فما حصدتم} أي من شيء بسبب ذلك الزرع- والحصد: قطع الزرع بعد استوائه- في تلك السبع الخصبة: {فذروه} أي اتركوه على كل حال: {في سنبله} لئلا يفسد بالسوس أو غيره: {إلا قليلًا مما تأكلون} قال أبو حيان: أشار برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل- انتهى.
ولما أتم المشورة، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا، فقال: {ثم يأتي} ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعد ذلك} أي الأمرالعظيم، وهي السبع التي تعملون فيها هذا العمل: {سبع} أي سنون: {شداد} بالقحط العظيم، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور، وسار بروحه غالب المقدور، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات: {يأكلن} أسند الأكل إليهن مجازًا عن أكل أهلهن تحقيقًا للأكل: {ما قدمتم} أي بالادخار من الحبوب: {لهن} والتقديم: التقريب إلى جهة القدام، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه، فقال: {إلا قليلًا مما تحصنون} والإحصان: الإحراز، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع- هذا تعبير الرؤيا، ثم زادهم على ذلك قوله: {ثم يأتي} وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم: {عام} وهو اثنا عشر شهرًا، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العلوم- لما لأهله فيه من السبح الطويل- قاله الرماني.
والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه- من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة- أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله: {فيه}.
ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانيًا للمفعول: {يغاث الناس} من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي، يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة: {وفيه} أي ذلك العام الحسن.
ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال: {يعصرون} أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه: {وقال الملك}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلًا فاضلًا صالحًا كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب.
فهذا هو قوله: {بعالمين وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا}.
وأما قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} فنقول: سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى: {مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 51] في سورة القمر قال صاحب الكشاف: {وادكر} بالدال هو الفصيح عن الحسن: {واذكر} بالذال أي تذكر، وأما الأمة ففيه وجوه: الأول: {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين، وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني: قرأ الأشهب العقيلي: {بَعْدَ أُمَّةٍ} بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي:
ثم بعد الفلاح والملك والإم ** ة وارتهم هناك القبور

والمعنى: بعدما أنعم عليه بالنجاة.
الثالث: قرئ: {بَعْدَ أُمُّهُ} أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم، وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان.
فإن قيل: قوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام.
قلنا: قال ابن الأنباري: اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفًا من أن يكون ذلك اذكارًا لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضًا أن يقال: حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضًا لذلك الشرابي.